×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

حصار غزة

التحرير
بواسطة : التحرير

حصار غزة
الجمعة 28/12/1429هـ

الحمد لله ؛ ملأ بنور الإيمان قلوب أهل السعادة , فأقبلت على طاعة ربها منقادة , فحققوا حسن المعتقد , و حسن العمل , و حسن الرضا , و حن العبادة , أحمده سبحانه و أشكره بالزيادة , و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , شهادة تبلغ صاحبها الحسنى و زيادة , و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله ؛ المخصوص بعموم الرسالة , و كمال السيادة , صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه و أتباعه على يوم الدين .
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، ووالوا فيه، وعادوا فيه، وأحبوا له، وأبغضوا له؛ فمن فعل ذلك فقد استكمل الإيمان.
أيها المسلمون: بعد سبع سنوات من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم تعاقد أئمة الكفر، ورؤوس الطغيان في مكة على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب، مسلِمهم وكافرهم؛ لأنهم آزروا النبي صلى الله عليه وسلم، إلا من كان مع المشركين في عدائهم كأبي لهب وأمثاله، وكتبوا صحيفة بذلك علقوها في الكعبة، فدخل بنو هاشم وبنو المطلب شعب أبي طالب ، وتركوا منازلهم في مكة؛ نصرة للنبي عليه الصلاة والسلام وحمية له -وإن كان كثير منهم على غير دينه- ومنعت قريش عنهم الغذاء والطعام والشراب وكلَ ما يحتاجونه، وعَظُم الحصار عليهم فأكلوا أوراق الشجر، وكلَّ شيء رطب، وهلك منهم ناس من الجوع، وبذل أبو طالب -وهو مشرك- جميع ماله، وكان يُنظِّم مناوبات لحراسة النبي عليه الصلاة والسلام خوفا عليه من أذى المشركين وغدرهم، ووالله لو كان أبو طالب مسلما لترحمنا عليه، وترضينا عنه؛ جزاء حمايته للنبي عليه الصلاة والسلام.
وكان صياحُ الصبيانِ يُسمع من وراء الشِعْب من شدة الجوع والمخمصة، فَيَرِقُّ بعض أهل مكة لحال أهل الشِعْبِ فَيُهَرِّبون الطعام والكساء لهم بالليل، وربما أفلت بعضهم من عيون زعماء المقاطعة فحمَّل بعيرا ووجهه إلى الشعب، وبعد ثلاث سنوات من الحصار والجوع سعى بعض كبارهم إلى نقضها.
وما فعل المشركون من بني هاشم وبني المطلب ما فعلوا حتى تركوا بيوتهم، وهجروا قبيلتهم، وانحازوا إلى الشعب يقاسمون المسلمين الجوع والضراء والبأساء ثلاث سنوات تباعا.. ما فعلوا ذلك إلا حمية للدم والنسب، ووفاء بواجب المروءة والشهامة، وحفظا لحق الرحم والقرابة.
و هاهم إخواننا المسلمين في غزة، يعانون ما يعانونه من ظلم الكافرين والمنافقين والظالمين، وقد عَجِز إخوانهم في الدين والدم عن نصرتهم , فهم يقاسون , و هم يعانون .
أضاؤوا ليل غزة بالشموعِ و ليل القهر بالعز المنيعِ
و ما رفعوا شكايتهم بذل لغير الله ذي العرش السميعِ
فهم من معشر قالوا قديما نسير و لا نؤمل في الرجوعِ
و نسوته العفائف و الصبايا جعلن الجيل في حصن منيعِ
فيا لله للأحبة في فلسطين بعامة , و في غزة بخاصة , فهل علمنا بقدر ماساتهم , هل شعرنا بإخواننا و بآلامهم , إن العدو يريد أن يوصلنا إلى الحضيض ! يرد منا أن لا نشعر بإخواننا ! يريد منا أن لا نتحدث عن مآسيهم ! بل جعل الذين يشعرون بهم و يتألمون بآلامهم ! جعلهم في خندق واحد معهم , و لكن الله أخبرنا من قبل فقال{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ }البقرة120 , فلن يرضوا بسكوتنا , و لن يرضوا بخنوعنا , كلا و الله .
فلماذا نتحدث غزة ؟ و لماذا نسرد المآسي و الآلام ؟ هل هو حديث سياسي و تدخل فيما لا يعني ؟ أم أنه سرد للأخبار و جرح للمشاعر و تقريح للجفون ؟ و لكني قبل أن أجيب على هذه التساؤلات , قبل أن أخبركم لماذا الحديث عن غزة , قبل هذا و ذاك سأحدثكم عن غزة , سنتجول في غزة هاشم , غزة التي كان الأمن يطرق بابها و يزين شوارعها , و ليلها غادرته الفوضى , غير أن هذا المشهد الذي تحقق بعد معانة طويلة , الذي تحقق بثمن غالي , و بضريبة كبيرة , لم تكتمل جوانب بهائه , بل بدت مقدمات كارثة إنسانية , بدأ الحصار الظالم , بدأت القسوة الحيوانية , التي لا تعرف الرحمة , و لا تشعر بآلام الغير , و بدأت مع أهل غزة حكاية جديدة , حكاية ملئت بآلام الأمهات , و بكاء الأبناء و البنات , و موت الشيوخ و الشباب على فراش المرض و الزفرات .
المشاهد الناطقة هناك تصور المشهد الدامي , مجموعة من النساء و الرجال , و الشيوخ و الشباب , و المرضى و المعوزين , ظلام دامس , شحٌّ في المواد الغذائية , نقص بل انعدام في الدواء , جثث تحمل و أخرى تتهاوى , و ربما عز الكفن و أغلقت المقابر , مليون و نصف المليون معظمهم من الأطفال و النساء يموتون حتف أنوفهم , و يقتلون صبرا , أي وضع هذا ؟ أي قسوة هذه ؟
حين تستصرخ الفتيات الفلسطينيات , بكل صدق و يقين , يقلن لا بأس في أن تشاهدوا جنائزنا , لكن استروا عوراتنا و اخلفونا في أهلنا بخير , فتلك التي تعقد الألسنة و تتفطر لها الأكباد , فأين هنّ اللاتي فرطن في الحجاب ؟ أين اللاتي يردن خلع الحجاب ؟ ألا تسمعن هذا المقال ؟ عجب و الله إنها دروس من قلب المحن .
في غزة تستصرخ فتيات أخريات و يقلن : بعد غدٍ لا خبز عندنا , و نحن أحسن من غيرنا , غيرُنا اليوم و غداً لا خبز عندهم , بل و لا ماء و لا دواء , فيا سبحان الله ! لا يجدون الخبز و يتضورون جوعاً , و يرددون نحن أحسن من غيرنا , فماذا نردد في مجالسنا , و ما هو جزاء إحسان الله علينا , هل شكرنا الله ؟ هل نظرنا فيمن هم دوننا ؟ هل قلنا في يوم من الأيام الحمد لله نحن أحسن من غيرنا ؟
لن استطيع الحديث عن التفاصيل , لأن الوقت قصير , و الآلام متراكمات من زمن طويل , و لكن سأبث بين أيديكم أرقاماً , تحير لهولها عقول ذوي الألباب , و تغرورق الأعين من عظم المصاب .
في غزة ستون بالمائة من الأطفال يعانون من سوء التغذية , في غزة أغلقت ثلاثة ألاف و تسع مئة منشأة بمعدل سبعة و تسعين بالمائة , فقد كان في غزة ستمائة منشأة فأصبحت ثلاثون منشأة , في غزة ألف و مئة و خمسون مريضاً يحتاجون إلى العلاج في الخارج , فللدواء عندهم حكاية مغموسة بالقهر و الوجع , و للموت حكاية بالفقد و اليتم , و للقبر ألف حكاية و حكاية مغلفة بالعجز و الآهات , فيبقى الكثير من المرضى حبيس ألآمه حتى يوافيه الأجل , لقد مات الكثير منهم و يموت الكثير , ألماً و صبر , قهراً و ظلما , في غزة ثمانون بالمائة يعيشون تحت خط الفقر , في غزة بلغت نسبة البطالة خمسة و ستون بالمائة , في غزة بلايا يتحطم لهولها الصخر ,
في غزة تبلل دموع الشيوخ الثرى , حين يتحسرون على مستقبل أبنائهم و بناتهم , إن كارثة غزة ربما لم يشهد التاريخ مثلها , إنه قطار الموت , يسير في قافلة تحمل إخواننا الفلسطينيين نعلم محطتها الأولى , و لا ندري أين يتوقف القطار , و متى يتوقف , إنه الحصار الظالم , و العدوان الغاشم .
فوا عجباً لكم يا أهل غزة ! و الله ما ندري مما نعجب ! أنعجب من ظلم اليهود و قهرهم و سطوتهم ! أم نعجب من صبركم و ثباتكم و تضحيتكم ! أنعجب بكثرة المصاب الذي ألم بكم ! أم نعجب من تفاؤلكم و استبشاركم و تعلقكم بركم !
فلماذا الحديث عن غزة ؟ تحدثنا عن غزة لنتعلم , لنتعلم كيف نصنع من المحن منحا , و من الآلام آمالاً , و من الظلمات نورا , و من الموت حياة , و من الخوف أمنا .
إن هذه المآسي توقظ الهمم و تستدعي رصيد الأخوة , فكم من غارق في همومه الشخصية فجاءت هذه الكوارث لتوقظ فيه حمية الدين , و تشعره بالولاء للمؤمنين , و هذا و الله مكسب , مكسبٌ في زمن تلاطمت فيه أمواج الفتن , فأصبح الحق مغلوبا , و أصبح الباطل منتصرا , أصبح متبع الحق , و الصابر على الفتن , أصبح عند كثير من الناس هو الذي على الباطل , فتسمع بين الحين و الآخر من يقول و هو متكأ على أريكته : لو أنهم فعلوا كذا و كذا لكان خيراً لهم .
و ما علم أن أهل غزة أمام خيارين، إما أن يستبدلوا الطعام والشراب والمعاناة التي هي طبيعية لأي شعب يستبدلوها بمهانة وضياع القضية وتصفيتها، و إما أن يصبروا على هذا الألم وهذا الحصار وهذا الجوع الظالم، فليسوا الشعب الأول ولن يكونوا الأخير الذي احتلت أرضه وعانى ما عانى وضحى، ولذلك فليس أمامهم خيار إلا أن يصبروا ويقدموا في سبيل ذلك التضحية ونحن على يقين أن هذه التضحيات لن تذهب هدراً.
و كم من مخدوع بأبجديات الغرب , و قيمه الحضارية كدعاوى ( الحرية , و الديمقراطية , و محاكم العدل ) فجاءت هذه المآسي لتمحوها من الذاكرة , و تثبت مكانها ( إرهاباً و ظلماً و جوراً ) .
كم تهيئ هذه المصائب و المحن من فرص لوحدة الصف , و نبذ الفرقة و الاختلاف , و اجتماع الكلمة .
أقول ما سمعتم و للحديث بقية و استغفر الله لي و لكم ولسائر المسلمين فاستغفروه و ارجوه إنه هو الغفور الرحيم .



الخطبة الثانية

الحمد لله ناصر أوليائه ، ومذل أعدائه ، أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .أما بعد فيا عباد الله
ألم تؤلمنا هذه الجراحات , ألم تحرك في جوانحنا المحبة و الإخاء , ألم يقل عليه الصلاة و السلام : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه , ألم يخفف الله علينا فقال {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }البقرة286 , أليس في مقدورك يا عبد الله أن ترفع يديك و تبتهل لله جل في علاه , و تناشده مناشدة المظلومين ,
أليس الملك لله ؟ أليس العز لله ؟ من الذي بيده ملكوت كل شيء ؟ من الذي يجير و لا يجار عليه ؟ من المحيي ؟ من المميت ؟ أليس الله .
نعم و الله لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله , لا يسمع تضرع الساجد في خلواته إلا الله , لا يسمع نجوى المظلوم و عبراته تتردد في صدره , و صوته يتحشرج في جوفه إلا الله {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }النمل62
إنه الله القائل ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني ثم أعطيت كل إنسان منهم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر ) .
أليس من حقهم علينا أن ندعو الله أن يفرج همهم , و ينفس كربهم , من منا ألح على الله , من منا أكثر في سؤاله و رجاه , من منا سكب العبرات , و أظهر الذل و الافتقار بين يدي رب الأرض و السماوات , مبتهلا مستنصرا مستغيثا بالله على الأعداء , إذا رأت عيناك مناظر عجزهم و قلة ناصرهم , فاستنجد بالواحد الحي الذي لا يموت , و اسأله أن ينصرهم , إذا رأيت الأطفال و النساء يتضورون جوعاً , فابتهل إلى من يدُه ملأى لا تغيضها نفقة , سحَّاءُ الليلَ و النهارَ , إذا رأيت طغيان الطغاة , و عدوان المعتدين , فتذكر الجبار , الذي يقول لدعوة المظلوم و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين .
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما يدريك ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء
فو الله إن النصر من الله , و والله إن العز من الله , و ما أراده الله كان , و ما لم يره لم يكن , يحكم ما يشاء و يفعل ما يريد .
عباد الله
و الله إنما نبخل على أنفسنا حين نبخل عليهم بالدعوات , فهم و الله من يدافع عن الأمة , و هم و الله من يقف عنا في وجه العدو , و هم و الله من يبذلون أرواحهم رخيصة لنحيا .
ما هي حجتنا يوم أن نقف بين يدي الله , فيسألنا عنهم , فبماذا نجيب ! أنقول يا رب لم نستطع أن ندعو لهم , إذا حيل بيننا و بين نصرهم بالمال و النفس , فليس أقل من الدعاء , فأكثر من الدعاء , و أيقنوا بالفرج بعد البلاء .
اللهم يا كاشف الضراء، ويا مجيب الدعاء فرج عن إخواننا في غزة، وارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان.
اللهم ارحم أطفالهم ونساءهم ومرضاهم، وأطعم جوعاهم، واكس أجسادهم، واربط على قلوبهم، وقو عزائمهم، وأنزل عليهم الصبر والسكينة والمعونة، وارزقهم من حيت لا يحتسبون.
اللهم لَا تَكِلْهُمْ إلينا فَنضْعُفَ عَنْهُمْ، ولا تَكِلْهُمْ إلى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عنها، ولا تَكِلْهُمْ إلى الناس فَيَسْتَأْثِرُوا عليهم، اللهم كِلْهُم إلى رحمتك التي وسعت كل شيء، إنك أنت أرحم الراحمين.
اللهم ارفع الذل والهوان والخذلان عن المسلمين، وأحيي قلوبهم بالإيمان واليقين، وردهم إليك ردَّا جميلا، وانصرهم على أعدائهم.
اللهم عليك بصهاينة أهل الكتاب، ومن عاونهم على ظلمهم يا رب العالمين، اللهم نكس راياتهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأخرجهم من ديار المسلمين أذلة صاغرين، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد....
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ....
بواسطة : التحرير
 0  0  2652