×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
×

تذكر الموت

التحرير
بواسطة : التحرير

تذكر الموت


الحمدُ للهِ الذي يرجعُ إليهِ الأمرُ كلُهُ , علانيتُهُ و سرهُ , خلقَ فسوى , و قدرَ فهدى , و أخرجَ المرعى , فجعلَهُ غثاءً أحوى , يحكمُ ما يشاءُ , و يفعلُ ما يريدُ , لا رادَ لحكمهِ , و لا معقبَ لأمرهِ , هو الواحدُ القهارُ , و هو العزيزُ الجبارُ , أشهدُ أن لا إلهَ إلا هوَ مالكُ الملكِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ , و أشهدُ أن صفيَّهُ و خليلَهُ محمدٌ عبدُ اللهِ و رسولهُ , أرسلَهُ بالهدى و النورِ المبينِ , صلواتُ اللهِ و سلامُهُ عليهِ , و على آلهِ الطيبينَ الطاهرينَ و صحابتِهِ الغرِ الميمينِ , و من تبعهُم بإحسانِ إلى يومِ الدين . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }آل عمران102
أما بعـد
فيا عباد الله
كان يعيش بين أهله في راحة و هناء , مرت به الأيام مروراً سريعاً , أصيب بآلام في رجله , صبر و احتسب , الآلام تزداد , و هو لا يزداد إلا صبرا و احتسابا , تنقل بين المستشفيات , رآه الأطباء , علموا بعظيم معاناته , و أخيرا كان القرار أن تبتر الرجل , فما كان منه إلا التسليم لقضاء الله و قدره , و فعلا بترت الرجل من أعلى الساق , فتغيرت أحواله , و ذهبت آلامه , كان لا ينام الليل , فأصبح ينام براحة و هناء , كان شغل أهله الشاغل إذا لم يُسيطَر على الألم في الرجل فماذا تكون النتيجة , و لكن الله يفعل ما يريد , يكلمه أحد أقاربه يرغب في زيارته و هو في مدينة بعيدة , فيقول له : لا تُتعب نفسك فنحن بمشيئة الله قادمون , لقد قرر الأطباء لي الخروج , يقول أحد أبنائه , نام أبي تلك الليلة نومة هنيئة طيبة , ثم أذن المؤذن لصلاة الفجر , فقام ليلبي النداء , فصلى الفجر ثم عاد إلى فراشه ليراتح , صلى الفجر ليدخل في ذمة المولى جل في علاه , فمن صلى الفجر كان في ذمة الله حتى يمسي , هو في ذمة الله , إن مات فهو في ذمة الله , و إن عاش فهو في ذمة الله , فهنيئاً لمن أصبح و هو في ذمة الله , و لكن ماذا حصل بعد ذلك , يأتي ابنه بعد ساعات إليه فيقول , يا أبي , يا أبي , و لكن لا مجيب , ما الذي حدث , ماذا جرى , إنه أمر الله {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }ق19
لقد فارقت الروح الجسد , خرجت إلى واليها و مولاها , عادت من سفرها إلى مأواها .
عباد الله
أولسنا نسمع في كل يوم داع الموت , فلان مات , و فلان في المستشفى و ما هي إلا أيام و يقال مات , وفلان و فلان هذا مات على فراشه , و ذلك مات في حادث مروري , و آخر مات و هو بين أهله و أقاربه ...... فما هو مصيرنا , ما هي إلا أيام و نحن بهم لاحقون , و على طريقهم سائرون , ثم ننسى كما نسوا من قبلنا , و والله لن ينفعنا إلا عملنا .
تمر أقاربي جنباتِ قبري كأن أقاربي لا يعرفوني
ذوو الأموالِ يقتسمون مالي و لا يألون أن جحدوا ديوني
و قد أخذوا سهامهموا و عاشوا فيا لله ما أسرعَ ما نسوني
عَنِ ابْنِ شَمَاسَةَ الْمَهْرِىِّ قَالَ حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِى سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ. فَقَالَ إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِنِّى قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنِّى وَلاَ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِى قَلْبِى أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ - قَالَ - فَقَبَضْتُ يَدِى. قَالَ « مَا لَكَ يَا عَمْرُو ». قَالَ قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ « تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ». قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِى. قَالَ « أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ». وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ أَجَلَّ فِى عَيْنِى مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَىَّ مِنْهُ إِجْلاَلاً لَهُ وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنِّى لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَىَّ مِنْهُ وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِى مَا حَالِى فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلاَ تَصْحَبْنِى نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِى فَشُنُّوا عَلَىَّ التُّرَابَ شَنًّا ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِى قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّى .
قال أبو نعيم : كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً . فإن سئل عن شيء قال : لا أدري لا أدري . و قال أسباط : ذكر عند النبي صلى الله عليه و سلم رجل فأُثْنى عليه فقال عليه السلام : كيف ذكره للموت ؟ فلم يذكر ذلك عنه . فقال : ما هو كما تقولون .
و قال الدقاق : من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة و قناعة القلب ، و نشاط العبادة . و من نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، و ترك الرضى بالكفاف ، و التكاسل في العبادة ، فتفكر يا عبد الله في الموت و سكرته ، و صعوبة كأسه و مرارته ، فيا للموت من وعد ما أصدقه ، و من حاكم ما أعدله ، كفى بالموت مقرحاً للقلوب ، و مبكياً للعيون ،و مفرقاً للجماعات ، و هادماً للذات ، و قاطعاً للأمنيات ، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك ، و انتقالك من موضعك ، و إذا نقلت من سعة إلى ضيق ، و خانك الصاحب و الرفيق ، و هجرك الأخ و الصديق ، و أخذت من فراشك و غطائك ، و غطوك من بعد لين لحافك بتراب و مدر ، فيا جامع المال ، و المجتهد في البنيان ليس لك و الله من مال إلا الأكفان ، بل هي و الله للخراب و الذهاب و جسمك للتراب و المآب . فأين الذي جمعته من المال ؟ هل أنقذك من الأهوال ؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك ، و قدمت بأوزارك على من لا يعذرك . و قد قيل
نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما ، و حنوط
و قال آخر :
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم و فيها راحة البدن
عباد الله
إن الأيام تطوى , و الأهلة تتوالى , و الأكفان تنسج , و الأعمال تدون , أجيال تفد إلى الدنيا , و أجيال ترحل عنها , و الغفلة تستحكم على كثير من القلوب , حتى غدا أكثر بني آدم يبنون دنياهم و يهدمون آخرتهم ,
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت . أخرجه ابن ماجه و الترمذي .
هاهي الأيام تمضي , فما أسرعها , و ما أكثر العصيان فيها , و ما أقل الاعتبار , الإنسان يمضي في هذه الدنيا كما مضت تلك الشهور , فكل يوم يمضي , هو من عمرك ينقضي , يستعجل المستعجلون ارزاقهم , و يتطلعون إلى مستقبلهم بنهم و شوق , و ما علموا أنها أعمارهم تنقص , و آجالهم تقرب , و لا يعلمون أيبلغون مطالبهم أم لا .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَرَّتْ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقُمْنَا مَعَهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ. فَقَالَ « إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا ».
لقد كان عليه الصلاة و السلام يذكر أصحابه بالموت , و يأمرهم بتذكره , و يحثهم على ما يذكرهم به فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ زَارَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ « اسْتَأْذَنْتُ رَبِّى فِى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِى أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِى فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ » رواه مسلم .
لقد خافوا الموت و عظيم سكرته , خافوا الموت و ما بعد ه, فكيف لا نخاف الموت و سكرته , و نحن مقصرون , و عن ربنا غافلون , كيف لا نخاف سكرات الموت و نحن نسمع سير الأنبياء , و حالهم عند الموت فقد ذكر المحاسبي أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام : [ يا خليلي كيف وجدت الموت ؟ قال : كسفود محمى جعل في صوف رطب ، ثم جذب قال : [ أما إنا قد هونا عليك يا إبراهيم ]
و روى أن موسى عليه السلام لما صارت روحه إلى الله . قال له ربه : [ يا موسى كيف وجدت الموت ] ؟ قال : وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلى لا يموت فيستريح و لا ينجو فيطير . و روى عنه أنه قال : وجدت نفسي كشاة تسلخ بيد القصاب و هي حية . و قال عيسى بن مريم عليه السلام :[ يا معشر الحواريين ادعوا الله أن يهون عليكم هذه السكرة ] يعني سكرات الموت .
و روي : أن الموت أشد من ضرب بالسيوف و نشر بالمناشير ، و قرض بالمقاريض .
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن وائلة ابن الأسقع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الذي نفسي بيده لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف . و في الخبر من حديث حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الملائكة تكتنف العبد ، و تحبسه ، و لولا ذلك لكان يعدو في الصحاري و البراري من شدة سكرات الموت .
بينا الفتى مرح الخطا فرح بما يسعى له إذ قيل : قد مرض الفتى
إذ قيل : بات بليلة ما نامها إذ قيل : أصبح مثخناً ما يرتجى
إذ قيل : أصبح شاخصاً و موجها . إذ قيل : أصبح قد قضى
اللهم هون علينا الموت و سكرته , و القبر و ظلمته , و الصراط و زلته يا رحمان يا رحيم .
أقول ما سمعتم و استغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين فاستغفروه و ارجوه إنه هو الغفور الرحيم














الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ حمدًا كثيراً طيباً مباركاً فيهِ كما يحبُ ربنُا ويرضى ، وصلى اللهُ وسلمَ وباركَ على نبينا محمدٍ وآلهِ وصحابتِهِ والتابعينَ ومن تبعهُم بإحسانٍ إلى يوم ِالدين . أما بعـد
فيا عباد الله
أيها الناس : قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه ، و حان للغافل أن يتنبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه ، و قبل سكون حركاته ، و خمود أنفاسه ، و رحلته إلى قبره ، و مقامه بين أرماسه.
و روى عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أناس من أصحابه يوصيهم فكان فيما أوصاهم به أن كتب إليهم : [ أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم ، و المراقبة له ، و اتخذوا التقوى و الورع زاداً . فإنكم في دار عما قريب تنقلب بأهلها ، و الله في عرصات القيامة و أهوالها . يسألكم عن الفتيل و النقير . فالله الله عباد الله . اذكروا الموت الذي لا بد منه ، و اسمعوا قول الله تعالى : كل نفس ذائقة الموت . و قوله عز و جل : كل من عليها فان . و قوله عز و جل : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم .
فمثل نفسك يا عبد الله و قد حلت بك السكرات ، و نزل بك الأنين و الغمرات , فمن قائل يقول : إن فلاناً قد أوصى و ماله قد احصى ، و من قائل يقول : إن فلاناً ثقل لسانه ، فلا يعرف جيرانه ، و لا يكلم إخوانه ، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب ، و لا تقدر على رد الجواب ، ثم تبكي ابنتك و هي كالأسيرة ، و تتضرع و تقول : حبيبي أبي من ليتمي من بعدك ؟ و من لحاجتي ؟ و أنت و الله تسمع الكلام و لا تقدر على رد الجواب
و أقبلت الصغرى تمرغ خدها على وجنتي حيناً و حيناً على صدري
و تخمش خديها و تبكي بحرقة تنادي : أبي إني غلبت على الصبر
حبيبي أبي من لليتامى تركتهم كأفراخ زغب في بعيد من الوكر ؟
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك ، إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل ، و ألبست الأكفان ، و أوحش منك الأهل و الجيران ، و بكت عليك الأصحاب و الإخوان ، و قال الغاسل أين زوجة فلان ؟ و أين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً ؟
فقدم يا عبد الله لذلك اليوم , فو الله إنك له ملاقيا , و إنك على ربك واردا , فدع الغفلة و بادر بالتوبة , و كن ممن اتعض بما يرى و احذر من تسويف نفسك و اتباع الهوى , فاليوم عمل و لا حساب و غداً حساب و لا عمل .
هذا و صلوا و سلموا ......

بواسطة : التحرير
 0  0  2716